
قاسم محمد العزير
يبدو تطبيق “التيك التوك” عصياً على الإستيعاب، بعمقه الحقيقي، من قبل شريحة مستخدميه الواسعة. يوماً بعد يوم يتضح أن المتفاعلين لم يجدوا حتى اللحظة الوسيلة المثلى للتعامل معه بما يحيله إلى ما يجدر به أن يكون كعامل تطوير للقيم وتحديث للمفاهيم.
ليس الهدف مما سبق إدانة التطبيق. فالإنصاف يقتضي القول أنه يمثل إنجازاً تكنولوجياً رائداً. غيّر معالم الحياة المعاصرة التي صارت بعد “التيك توك” غيرها قبله، لكن القصد مناقشة الأساليب السائدة في تعامل أكثرية الناشطين على تلك المنصة معها، والقائمة في أعمها الأغلب على الرغبة الساذجة في الإنتشار السريع، وهو ما يشترط التسطيح ويقتضي الرداءة، ويفترض إعلاء شأن المحتوى الفارغ على حساب المضمون الراقي.
لعل حكاية الناشطة ليا حمزة التي ستتولى هذه المقالة مناقشتها تفي بحاجة الشرح والإيضاح.
وإن لم تكن هذه العجالة كافية لتسليط الضوء الكاشف على كل التداعيات المتأتية من حكاية مماثلة، فإن بوسعها أن تكون مفيدة لسرد بعض التفاصيل التي تساعد على استقراء الواقع، ورصد الإشارات الدالة على المستقبل القريب، وربما البعيد ايضاً.
ليا حمزة ناشطة على “التيك توك” أمكنها تحقيق مستوى لا بأس به من قبول المتابعين. كانت تراكم “نجاحاتها”، أو ما تحسبه كذلك، وتحلم بالمزيد منها عندما تعرضت لحادث سير بلغ مستوى متقدماً من الخطورة. وقوعها المباغت في مرمى الخطر دفعها لإعادة النظر في تصرفاتها. كان نشاطها على “التيك توك” في مقدمة السلوكيات التي أخضعتها للنقاش، توصلت بمحصلة الحوار الذاتي إلى قرار بإرتداء الحجاب مع الإستمرار في تقديم فقراتها على المنصة الذهبية. بدا الأمر أقرب إلى صفقة تعقدها ليا مع ربها: “اسمح لي بأن أتابع نشاطي الذي قد لا يرضيك تماماَ مقابل أن أرتدي الحجاب كما طلبت مني”.
لم تكتف الناشطة بالحجاب، هي أدت فريضة العمرة، ونشرت فيديوهاتها من الأماكن المقدسة.
يومها ساد الظن في أوساط المتابعين أنهم أمام نسخة جديدة من ليا حمزة لا تشبه الأصلية منها، وقد ساهمت إطلالتها الجديدة بزيادة في عدد متابعيها. كان ذلك منطقياً ويمكن إدراجه في خانة تشجيع الجمهور للخطوة الواثقة التي خطتها نحو الرصانة. لكن بالمقابل كان للحجاب أن أفقد حضورها المرئي الكثير من عوامل الحيوية والبشاشة والجرأة، ما انعكس سلباً على المردود المادي.
هنا وجدت ليا نفسها تدخل في “مونولوغ” جديد مع نفسها، وتخلص من خلاله إلى إعادة النظر بقرار إرتداء الحجاب.
بذات المستوى من الثقة التي أبدتها عندما أعلنت قرارها بالتحجب، أطلت ليا على متابعيها تعلمهم بأنها تراجعت عنه. لتتركهم في حالة من الإستغراب أدركت حدود الدهشة: كيف يمكن لفتاة مسلمة ارتدت الحجاب، وأدت العمرة أن تتراجع عن موقفها كما لو أنها تدخل تعديلاً طفيفاً في “اللوك” خاصتها؟
لم يتردد بعض المتابعين في اتهامها بأن كل ما فعلته، من حجاب وسفور واداء للفرائض، ثم عودة غير مشروطة إلى نشاطها التفاعلي، هو مجرد وسيلة لتعزيز عدد متابعيها. ومن شأن استنتاج بهذا الحجم أن يثير الإستهجان، بل والإدانة الأخلاقية أيضاً.
مع الإقرار المسبق بأن ذلك القرار يبقى ملكاً لها في الحالتين (الحجاب أو السفور)، فإن السؤال يظل مشروعاً حول الدوافع التي أملته، كما يصير النقاش مبرراً بشأن مقدار السيطرة على النفس لدى المنخرطين في التفاعل على التيك توك. أي أن التساؤل يصبح ملحاً: هل فكرت ليا بمكانتها الذاتية، وبالصدى السلبي الذي سيثيره موقفها في أذهان متابعيها؟
لا نملك الحق في مناقشة ناشطة بشأن ارتدائها الحجاب أو تخليها عنه. لكن واجبنا المهني، بحدوده الدنيا، يفرض علينا أن نحلل تصرفها المتأرجح لنستنتج أننا بصدد حالة استلاب وعجز مطلقة أمام الإغراءات التي تقدمها منصة وصفت بالذهبية.
بأوضح لا تهدف هذه الكلمات إلى إدانة ليا، أو إلى تبرئتها، فذلك أمر يقرره المتابعون والداعمون، بقدر ما هي تسعى إلى رصد الخضوع المطلق الذي يبديه الدائرون في فلك السوشيل ميديا أمام معايير الربح. وهو مرشح للتفاقم حتى حدود تهديد سيطرة المرء على ذاته، وتحويله إلى فرد مستباح في مهب المؤثرات الجانحة نحو تفاقم خطير. وإن كان الحجاب التقليدي خياراً فردياً فإن الحصانة الأخلاقية والقيمية هي شأن مجتمعي بامتياز، لا يمكنها أن تؤول إلى مجرد وجهة نظر.