
قاسم محمد العزير
مجدداً يبدو تطبيق “التيك توك” في مقدم الإهتمام. سريعاً أمكن لهذه المنصة الساحرة أن تتقدم إلى الواجهة لتشغل الناس، وتفرض نفسها عليهم. ليس الأمر غريباً في حقيقته إذ لطالما كانت الإكتشافات المبهرة تفعل ذلك. لكن اللافت في الأمر حالياً، أن المتفاعلين يبدون عاجزين عن استيعاب الظاهرة المستجدة. هم يمارسون، وبشغف ملحوظ، قدراً كبيراً من الإستغراق في تفاصيلها وتداعياتها. إستثنائية “التيك توك” تعود إلى قدرته الباهرة على تغيير الناس وفقاً لمعاييره، التي وإن كانت بدايتها مرئية فإن خاتمتها تبدو في عهدة المجهول.
ما يسجل بداية هو السهولة الفائقة التي تحول عبرها بعض هواة التطبيق إلى نجوم مشهورين. فيما ظل آخرون من متابعيهم في خانة الملحقين المهمشين. لا بد من التوقف عند آداء الحائزين على الشهرة إذ يصدرون أوامرهم بثقة إلى “جيوش التكبيس” التابعة لهم. يهددونهم بالإقصاء، ويرغّبونهم بالإضافة. المفارقة أن الفئتين يصدقون المقولة ويعملون بوحيها.
الأدهى من ذلك أن الطليعيين من أهل التطبيق هم، في معظمهم، من أولئك الذين تخلوا عن الإحتشام وركبوا مركب الجرأة المتخطية لكل حدود. فجأة تغيرت مقاييس التصنيف الإجتماعي. لم تعد الفتاة التي تبالغ في إظهار مفاتنها موضع اتهام. صار بوسعها، متحللة من بعض الثياب والحشمة، أن تمارس دور المؤثرة التي تقود قطيعاً من الأنصار، يضغطون على صورتها المثيرة ليستولدوا لها علامات الإعجاب ونقاط الفوز. وعندما يقترن الحضور الداعر باللفظ البذيء والتعابير المتخطية لحدود العفة تؤول اللعبة إلى ذروتها. وتتفاقم الجهود الساعية إلى ترسيخ الأنثى المتخلية عن الخفر المألوف بوصفها نجمة لا تُجارى.
ما يمكن رصده هنا كمكون إضافي للعبة الإثارة المألوفة عبر الزمن، أن التيك توك حرم الأنثى من دورها التقليدي كمصدر أساسي للمتعة الرخيصة. مفسحاً المجال للذكر كي يقاسمها المشهد. فصرنا نقع على كثير من الديوك التيك توكية الذين يتقنون تسويق أنفسهم بوصفهم من الإثارة في موقع المركز من الدائرة.
ما سبق، على أهميته، لا يتعدى كونه قمة جبل الجليد، الأدهى هو ذلك الكامن في الأرقام المادية الهائلة التي تسفح على مذبح التحديات. ثمة مبالغ مبالغ فيها يجري استهلاكها يومياً في سياق ترجيح كفة متنافس على آخر. ظاهرة الداعمين المختبئين خلف أسماء وهمية لا يمكن تفسيرها بوصفها مجرد استجابة بريئة لحماوة المنافسة. يدور في الأروقة المغلقة أحاديث عن صفقات مشبوهة، وعن أموال مشكوك في مصادرها، وعن استهدافات غير بريئة تشكل خلفية هذا المشهد الملغوم. وكل ذلك يدخل حتى اللحظة في خانة الإستنتاج الذي يعوزه التأكيد. لكن البديهي أن ما يشهده المراقب على شاشة هاتفه، من جرأة عابرة للحدود، له تتمة أشد فجوراً تتراكم فصولها في الظلمة.
لا يمكن لما سبق أن ينفي وجود فئة تتمسك برصانتها، وتحرص على آدميتها بينما هي تحاول أن تجد لها مكاناً في ساحة التطبيق الذي يسعه أن يكون إضافة قيمة إلى وسائل التواصل الإجتماعي إذا أحسن استغلاله، لكن الحقيقة التي لا مفر من الإقرار بها أن هؤلاء قلة واستثناء يؤكد القاعدة ولا ينفيها.
قد لا يكون بعيداً اليوم الذي نشهد فيه انفجار التداعيات الخفية على الملأ المرئي. الأرجح أن كثيرين، كثيرات أيضاً، سيكتشفون حينها أن ركوبهم الموجة كان مركباً خطراً.